العالم يتغير والصراعات السياسية تقسم العالم بين شرقٍ وغرب، لكن في خضم تلك الأحداث الساخنة تبدأ فترة الستينات بظهور قوى جديدة في عالم كرة القدم، فلم يعد ريال مدريد يهيمن بمفرده على أوروبا، والمد البرازيلي بدأ يظهر على الساحرة المستديرة.
انتهت حقبة الخمسينات وقرر الاتحاد الدولي لكرة القدم أن يمنح كأس العالم 1962 لقارة أمريكا الجنوبية، وذلك بعد ظهور أصوات تطالب بمقاطعة المونديال في حال استمرار تنظيم الحدث بأوروبا، وسوف نستعرض معاً في هذه الحلقة كل كواليس مونديال 1962.
طالبت الصحافة العالمية بسحب البطولة، لكن الفيفا رفضت ذلك كي تساعد تشيلي على الحصول على المساعدات الاقتصادية لكي تنهض الدولة مرةً أخرى.
هاجمت الصحف الإيطالية الاتحاد الدولي لكرة القدم، ووصفت تشيلي بالدولة الضعيفة لأنها قررت أن تنظم المونديال في أربعة ملاعب فقط، وهذا خلق صراعاً كبيراً بين الدولتين.
أقيمت البطولة بنفس نظام كأس العالم 1958، 57 دولة شاركت في التصفيات المؤهلة، تأهلت تشيلي بصفتها الدولة المنظمة، والبرازيل بطلة العالم، وحصلت أوروبا على 8 مقاعد، واشتركت ثلاث منتخباتٍ من أمريكا الجنوبية، ودولةً واحدةً من الكونكاكاف، فيما تنافست دول أوروبية مع أفريقيا وآسيا على مقعدين.
ظهرت اعتراضات كبرى على نظام التصفيات في أفريقيا وآسيا، وهذا غير نظام التأهل بعد البطولة بسبب تهديد القارتين بالانسحاب من التصفيات في ما بعد.
تأهل فريقان للمرة الأولى وهما كولومبيا وبلغاريا، وكانت هذه المشاركة الكولومبية الأخيرة في كأس العالم حتى عام 1990، وفشلت السويد وفرنسا في التأهل في مفاجأةٍ صارخة خاصة في ظل أدائهما الرائع في 1958.
كان نظام البطولة مشابهاً لـ1958، تأهل 16 منتخباً وتم تقسيمهم على 4 مجموعات، ويحصل المنتصر على نقطتين والمتعادل على نقطة، وتم اللجوء لفارق الأهداف في حالة تساوي المنتخبات في عدد النقاط، ولم يتم اللجوء لمباراةٍ فاصلة لتحديد بطل المجموعة كما كان يحدث سابقاً.
أقيمت البطولة على أربعة ملاعب، وأدارها 18 حكماً وسط أجواءٍ تنافسيةٍ هائلة وحضور جماهيري كبير، وبدأت في 30 مايو 1962.
قاد الأسطورة ليف ياشين الاتحاد السوفيتي لتصدر المجموعة الأولى، وحلت يوغوسلافيا ثانيةً، وبدأت شمس أوروجواي بطلة العالم مرتين في الأفول، وخرجت معها كولومبيا من الدور الاول.
كانت المجموعة الثانية على موعدٍ مع التاريخ، حيث شهدت معركة سانتياجو الأعنف في تاريخ كؤوس العالم .
بدأت ألمانيا المجموعة بتعادل مع إيطاليا التي كانت تحاول استعادة بريقها بعد عدم المشاركة في مونديال 1958، وعلى الجانب الآخر تفوقت تشيلي على سويسرا.
أطلق لقب معركة سانتياجو على مباراة الجولة الثانية في المجموعة الثانية بين إيطاليا وتشيلي، والتي كانت في 2 يونيو 1962 في العاصمة التشيلية سانتياجو.
أدار اللقاء الحكم الإنجليزي كين أستون، الذي يعود الفضل له في ابتكار البطاقات الصفراء والحمراء في وقتٍ لاحق، وكانت المعركة قد بدأت قبل البطولة، حيث شن الصحفيان الإيطاليان أنطونيو تشيريلى وكورادو بيزينيلى هجوماً لاذعاً على تشيلي، وذلك بسبب عدم إقامة البطولة في أجواءٍ صحية بسبب الفقر والتخلف، فترجمت الصحف التشيلية لمقالات وأثارت حفيظة الجماهير ولاعبي المنتخب.
تم طرد الإيطالى جورجيو فيريني بعد ارتكابه خطأ على هورينو أندا لاعب منتخب تشيلي، لكنه رفض الخروج، فتم إخراجه بالقوة من قبل رجال الشرطة المتواجدين في الملعب، وكان لاعب منتخب تشيلي ليونيل سانشيز قد رد على تلك العرقلة بلكم اللاعب الإيطالي ماريو ديفيد، لكن الحكم تغاضى عن طرده مما دفع ماريو دافيد لركل ليونيل سانشيز على رأسه، في الدقيقة 29 وتم طرده.
لعب المنتخب الإيطالي بتسعة لاعبين مما تسبب في فوضى عارمةٍ وضرب ولكمات طوال المباراة التي انتهت بتفوق تشيلي بهدفين نظيفين، وتم وصفها بالمباراة الأغبى في تاريخ كرة القدم.
تأهل منتخب ألمانيا الغربية كمتصدر وتشيلي كوصيف في النهاية، وعلى الجانب الآخر، كانت المجموعة الثالثة مثيرةً للغاية، فالبرازيل هيمنت على المجموعة وتصدرت وجاء بعدها منتخب تشيكوسلوفاكيا، والغريب أن إسبانيا واصلت فشلها في كؤوس العالم، على الرغم من امتلاكها منتخباً جيداً، وأسماءً مميزة مثل دي ستيفانو وبوشكاش ولويس سواريز، لكنهم كانوا في آخر مسيرتهم الكروية، فلم يستطيعوا مجاراة نسق البرازيل الرائعة ولا تشيكوسلوفاكيا القوية بدنيا.
هيمنت المجر على المجموعة الرابعة وتلتها إنجلترا التي كانت لاتزال تحاول أن تصنع تاريخاً في المونديال، حيث لم تستطع حتى ذلك الوقت مجاراة نسق البطولة، كما اكتشف الإنجليز أنهم ليسوا أسياد اللعبة كما كانوا يظنون.
من ماسأويات البطولة أن بيليه تعرض لإصابةٍ قوية في مباراة تشيكوسلوفاكيا وغاب عن بقية البطولة، لكن تألق جرينشيا وأماريلدو وقادا البرازيل لتحقيق المفاجأة في ما بعد.
توقع الجميع انهيار البرازيل بعد إصابة النجم الأول بيليه، لكن ما حدث كان عكس ذلك تماماً، حيث تغلبت السامبا على إنجلترا بنتيجة (3-1)، ولم يستطع بوبي مور ولا بوبي شارلتون ولا بوبي روبس ولا جيمي جريفيس مجاراة تألق جرينشيا الرهيب، الذي سجل هدفين وقتها فتأهلت بلاده لنصف نهائي المسابقة.
حققت يوغوسلافيا المفاجأة وانتصرت بهدفٍ نظيف، و فاجأت تشيكوسلوفاكيا المجر بهدفٍ نظيفٍ، أما أكبر المفاجآت كانت فوز تشيلي الدولة المستضيفة على الاتحاد السوفيتي بطل أوروبا بنتيجة (2-1).
توقعت الصحف أن تشهد البطولة مفاجأةً جديدة، لكن البرازيل اكتسحت تشيلي على أرضها (4-2)، وذلك بفضل تألق جرينشيا وفافا اللذين قادا السامبا لنهائي المونديال، وفي المقابل تشيكوسلوفاكيا هزمت يوغسلافيا بسهولة (3-1).
حققت تشيلي المركز الثالث بالفوز على يوغوسلافيا بهدفٍ نظيف، وفرحت الجماهير كثيراً بتألق منتخب بلادها، بينما كان العالم على موعد يوم 17 يونيو مع المباراة النهائية بين البرازيل وتشيكوسلوفاكيا.
الغريب أنه على الرغم من تأهل تشيكوسلوفاكيا للنهائي، لم يتم تخليد هذا الجيل بالصورة الكافية، ولا المدرب المميز رودولف فيتلاسيل، لكن مسيرتهم كانت ستتغير للأبد في حالة تحقيقهم للقب.
أقيمت المباراة على ملعب خوليو مارتينيز برادانوس الوطني بالعاصمة سانتياجو وسط حضور 68,679 متفرجا، تقدم منتخب تشيكسلوفاكيا في البداية في الدقيقة 15 عن طريق يوسييف، وذلك قبل أن يتعادل اللاعب أماريلدو للبرازيل في الدقيقة 17، ثم يسجل زيتو وفافا هدفين في الشوط الثاني أنهيا المباراة بنتيجة (3-1)، توجت منتخب السامبا باللقب الثاني على التوالي.
كانت الصحافة البرازيلية سعيدةً خاصةً أنها لم تتوقع أن ينجح الفريق في الفوز بالبطولة بعد إصابة بيليه، وكانت البرازيل وقتها بقيادة المدرب إيموري موريرا الذي خلف المدرب العظيم فيولا، الذي قاد البرازيل لمونديال 1958.
حقق جرينشيا جائزة أفضل لاعب في المونديال، وكان لاعباً عظيماً لكنه للأسف لم ينل التقدير الكافي لأنه ظلم نفسه كثيراً.
ولد جرينشيا بإعاقةٍ تعيق الشخص العادي عن المشي، وهذه الإعاقة جعلته يصبح أفضل جناح أيمن في تاريخ كرة القدم، حيث كان لديه اعوجاج في الركبتين نحو الخارج، واعوجاج في العمود الفقري، وحتى الحوض كان مائلا بوضوح نحو اليسار.
ولد جرينشيا فقيراً لـ22 شقيقاً وشقيقة، وكان أهله يحلمون فقط بأن يتمكن ابنهم من الوقوف على قدميه، وكان يعشق كرة القدم، وفي أحد أيام عام 1953 وهو في السادسة عشر من عمره، كان حاضراً مع صديق يلعب في فريق بوتافوجو، وكان الفريق به نقصٌ في اللاعبين، فقام المدرب باستدعاء جرينشيا للعب، وسط تهكم الجميع وقتها على جرينشيا.
فجأة أبهر جرينشيا الجميع بمراوغاته غير الطبيعية، وعلى الفور وقع معه فريق بوتافوجو، ولم يستطع أحد إيقافه، وكانت له حركة شهيرة، وهي أنه كان يراوغ على مرتين، الأولى دون كرة يقوم فيها بتمويه جسدي وقدمه اليمنى التي يموه بها، ثم يقفز على اليسرى كي يعطي الانطباع أنه يريد الانطلاق وعند لحظة ما يفلت بسرعته .
انضم للمنتخب وبات شهيراً وحقق مونديال 1958 و،1962 بل إن مونديال 1962 سمي باسمه، وبعد كأس العالم بتشيلي ضربته لعنة الإصابات واتجه للملذات، وبدأ يكثر من التعرف على الفتيات وأدمن الكحول وانفصل عن زوجته وأولاده، وتعرف على المغنية إلزا سواريز ومن فرط علاقاته النسائية أنجب 13 طفلاً.
نال جرينشيا لقب هداف البطولة بأربعة أهداف، وشهدت هذه النسخة تسجيل 89 هدفاً في 32 مباراة.