بآمالٍ كبيرة ونبضاتِ قلبٍ متسارعة، وأمنيةٍ وحيدةٍ، هي تأهُّل مصر للمونديال، توجَّه (إبراهيم) مع أصدقائه لملعب برج العرب، ليكون شاهدًا على تحقيق الحلم، الذي لطالما انتظرته أجيال وأجيال، لكنَّه كان يتحول في كل مرة منذ عام 1990، إلى كابوس بغيض. كان (إبراهيم) الذي وُلد في العام الذي ظهرت فيه مصر بالمونديال للمرة الأخيرة بإيطاليا عام 1990، مثله مثل غيره من الشباب، يُمني النفس برؤية منتخب بلاده في كأس العالم. لكن هذه المرة، يبدو وأنَّ الأمر مختلف تمامًا، فمصر في حاجة للفوز فقط على الكونغو، للظهور بالمونديال. الأمر يبدو في ظاهره سهلاً، لكنَّ الذكريات المؤلمة مع كل تصفيات تجعل كل مصري، لا يطمئن إلا وهو يرى نشيده الوطني يُعزف على الأرض الروسية، حينها يدرك بالفعل أنَّ مصر عادت للمونديال، وأنَّ الحلم بات حقيقة.
كانت مدرجات ملعب برج العرب، ممتلئة منذ ظهر الثامن من أكتوبر/تشرين أول الماضي، بما يربُو على 60 ألف متفرج، ورغم الحماس والأمل الذي يُراودهم، إلا أنَّه لم يكن من الصعب تلمس القلق الذي يظهر بين الفينة والأخرى على وجوهم، تراهم يتهامسون بأنَّ أداء الفريق تحت قيادة المدرب هيكتور كوبر، لا يُلبي طموحاتهم، وأنَّه يسمح للمنافسين بفرض أسلوب لعبهم علينا، فيما نركن نحن للدفاع على أمل خطف هدف من الهجمات المرتدة عن طريق محمد صلاح.
لكن حسنًا.. لعل الدافع القوي بأنَّ الفوز هو السبيل الوحيد لتحقيق حلم التأهل، قد يُغيّر من فكر المدرب الأرجنتيني.
وما هي إلا دقائق وانطلقت المباراة، وحاول صلاح، ورفاقه اختراق دفاعات الفريق الكونغولي، طوال الشوط الأول، لكنَّهم عجزوا حتى عن صُنع الخطورة اللازمة.
وبعد مرور أقل من 20 دقيقة على بداية الشوط الثاني، استغلَّ محمد صلاح خطأ دفاعيًا، ووضع مصر في المقدمة، بهدف انفجر معه الملعب بدموع الفرحة والأمل.
ركن الفريق وكعادته في كل مباراة بالتصفيات، للدفاع في الوقت المتبقي للحفاظ على تقدمه، ورغم أنَّ الكونغو لم تصنع الخطورة الكبيرة، إلا أنَّ القلق كان يقتل 100 مليون مصري، خوفًا من هدف يُعكِّرُ صفو فرحتهم.
وجاءت اللحظة التي فجعت كل مصري، عندما استطاعت الكونغو التعادل قبل النهاية بـ 3 دقائق، هدف كان وقعه كالصاعقة. الحزن يخيم على الجميع. الصدمة أسكتت أفواههم، وأسالت دموعهم.
كان (إبراهيم) في تلك اللحظة يلعنُ في داخله (كوبر) وطريقته ودفاعه المتحفظ المبالغ فيه. يسأل نفسه هل يضيع حلم التأهل ككل مرة؟.
لكنَّ جواب سؤاله لم يتأخر، فوسط كل الغضب المكتوم، يأتي الحكم بكاري جاساما ليطفئ لهيب هذه النار الموقدة بصافرته عندما احتسب ركلة جزاء في الدقيقة (90+4) ينبري لها محمد صلاح بنجاح، ويعلن معها عودة مصر للمونديال.
وقتها تبدَّدت كل أحزان (إبراهيم) ورفاقه، وأصبحت الفرحة الجنونية والسعادة العارمة، هي عنوان وجوههم، يصرخون، يهلِّلون، يصفقون، يرقصون، ويهتفون لمنقذهم محمد صلاح. لا يصدقون ما حدث. أخيرًا سيرون بلادهم في كأس العالم. إنَّه لأمر مذهل للغاية.
وبعد ساعات من الاحتفال في ملعب برج العرب، عاد (إبراهيم) إلى بيته بفرحة تكفيه لسنوات قادمة، وكأنَّه لم يفرحْ من قبل. يجد الفرحة نفسها على وجهِ أبيه، الذي شاهد المباراة في المنزل، يُحدِّثه قائلاً: “ليتك كنت معنا في الاستاد. إنَّها لحظات لن تُنسى. لقد فعلناها أخيرًا”.
يتبادل (إبراهيم) مع والده، أطراف الحديث عن المباراة الحلم. يسرد له كل تفاصيلها. وشعور كل مَنْ في الملعب لحظة هدف صلاح الأول، وخيبة الأمل بتعادل الكونغو، والفرحة الجنونية بالفوز، والتأهل لمونديال روسيا.
ووسط حديثهم، يطرح إبراهيم تساؤلًا: “ماذا بعد تأهلنا للمونديال؟.. كوبر لا يهاجم أبدًا. يدافع، ثم يدافع، ثم يدافع، ماذا سنفعل أمام عمالقة كرة القدم؟”.
يصمتُ الأب صاحب الـ 57 عامًا قليلًا، ويعود بذاكرته لمونديال إيطاليا عام 1990، ويتذكر تلك الانتقادات التي طالت أداء المنتخب من طريقته الدفاعية أمام المنتخب الأيرلندي بالتحديد.
راح الوالدُ يقص على نجله مشوار منتخب الفراعنة تحت قيادة مدربه الراحل محمود الجوهري، في إيطاليا، المعروفة بجنة كرة القدم على الأرض.
جلس (إبراهيم) يستمع بشغف لوالده، الذي تنهَّد ونظر إلى ابنه، وهو يبتسم، وقال: “كانت فرحة كتلك التي نشعر بها اليوم. كان هدفًا تاريخيًا من حسام حسن في شباك الجزائر، كفيلاً بتأهلنا للمونديال. يومُها لم تنم مصر”.
وواصل “ومن أجل الظهور الجيد، أجبر محمود الجوهري مدرب المنتخب، اتحاد الكرة وقتها على إلغاء بطولة الدوري، وراح يجوبُ بفريقه بقاع الكرة الأرضية، وخوض مباريات ودية من أجل الظهور بمظهر مشرف في المحفل العالمي”.
وتابع “كانت المباراة الأولى في المونديال لنا أمام هولندا. كان منتخبًا مرعبًا يضم نجومًا كبار مثل رود خوليت، وفان باستن، وفرانك ريكارد، ورونالد كومان، وكان قد أحرز لقب أمم أوروبا قبلها بعامين في عام 1988”.
ورغم هذه الاسماء الرنَّانة، قدم منتخبنا مباراة جيدة، وأحرج الطواحين، ونجحنا في الخروج متعادلين. هنا يضحك الأب، قائلاً: “بالتأكيد تعرف قصة هذا الهدف. ومن صاحبه؟”.
يواصل الأب “في المباراة التالية فعل منتخبنا ما لم يفعله أي فريق في البطولة. كان ذلك أمام أيرلندا، في 17 يونيو/حزيران. أتذكَّر التاريخ جيدًا. يومها قدمنا كرة قدم جديدة للعالم، لم يرها من قبل، ولن يراها أبدًا. لعبنا بطريقة دفاعة بحتة. الـ 10 لاعبين يتمركزون أمام مرمى أحمد شوبير”.
كان الابن قد سمع عن تلك المباراة، لكنها قد تكون المرة الأولى التي يسمع تفاصيلها بهذا الشكل، فكان منصتًا بشغف كبير، لوالده الذي واصل “لك أن تتخيل أنَّ (شوبير) كان أكثر اللاعبين استحواذًا على الكرة، وطوال المباراة لم تُسدِّد مصر سوى كرة وحيدة فقط على مرمى أيرلندا، وحتى هذه كانت (طائشة) من مجدي عبد الغني. لعله لو تذكرها لما كان قد أمعن في إذلالنا بركلة جزاء هولندا”.. هنا يضحك الوالد والابن.
ويضيف الأب “لاعبو مصر كان يتفنَّون في إضاعة الوقت، فاللاعب يأخد الكرة ثم يرجعها بقدمه لشوبير، فيمسكها ببطء، ثم يمررها للمدافع، الذي يحتفظ بها لثوانٍ ثم يعيدها لشوبير ثانية، وهكذا، لدرجة أنَّ عدد إعادة لاعبي مصر، الكرة للحارس بلغ أكثر من 30 مرة بالمباراة”.
ويتابع الأب بابتسامة مستنكرة “ما فعله منتخبنا يومها أثار استياء جاك تشارلتون، مدرب أيرلندا، الذي استشاط غضبًا وخرج عن شعوره بسبب خطة الجوهري الدفاعية المُبالغ فيها، والتي وصفها البعض بأنها (عملية تحنيط للكرة)”.
وقال تشارلتون “لقد كرهت كرة القدم؛ بسبب هذا الأسلوب العقيم الذي لجأت إليه مصر.. المصريون لم يحضروا للعب. لم يعجبني أي شيء، لا الطريقة التي لعب بها المصريون، ولا تكتيكهم في تضييع الوقت”.
ويُكمل الوالد “بالتأكيد لم نتمكن من تخطي دور المجموعات؛ حيث خسرنا المباراة الثالثة أمام إنجلترا، واكتفينا بتعادلين أمام هولندا وأيرلندا، لنودَّع البطولة”.
يُقاطعه إبراهيم “ليت كوبر يخلف ظننا. ليته يفاجئنا بكرة قدم حقيقية في كأس العالم”، فيشاركه الأب أمنيته “ليته يفعل”، قبل أن يعودا لتذكر فرحتهما بالتأهل الذي طال انتظاره.