في بعض الأحيان، يحتاج الإنسان إلى بعض الدوافع، حتى ولو كانت سلبية، ليحولها إلى وقود ينطلق به نحو القمة.
من بين هؤلاء الأشخاص أسطورة كرة القدم السنغالية والأفريقية ساديو ماني، الذي تغلب على كل الصعاب التي واجهته حتى وجد نفسه بين أحد أفضل لاعبي العالم.
ونقدم خلال السطور التالية، الحلقة الرابعة من سلسلة “ريمونتادا”، المكونة من 8 حلقات على مدار شهر رمضان المبارك، بواقع حلقتين أسبوعيا، يومي الأحد والثلاثاء.
وسيتم الحديث خلال هذه السلسلة عن المعاناة التي مر بها أهم نجوم الدوري السعودي من المحترفين المسلمين، قبل أن يتجاوزوا هذه المحن ويحققوا الإنجازات، وسيكون ماني نجم الحلقة الرابعة من “ريمونتادا”.
معضلة الأب
دائمًا ما يكون الأب هو العنصر الداعم لأبنائه من أجل تحقيق أحلامهم، ولكن في حالة ماني، كان والده هو الحائل أمام تحقيق حلمه عندما كان طفلًا صغيرًا.
يقول ماني إن والده الذي كان يعمل كإمام مسجد كان يرفض حلمه بلعب كرة القدم، وكان يريده أن يركز على دراساته الدينية، ومع ذلك لم يُخفِ حبه له، حيث وصفه بأنه: “كان صاحب قلب كبير”.
لكن هذا القلب توقف عن النبض بينما كان ساديو في السابعة من عمره، عندما كان يتجهز لخوض مباراة في مدينة بامبالي التي وُلد فيها يوم 10 أبريل/نيسان عام 1992.
توقف قلب والد ماني بعد شهور من المرض، لم تتمكن فيها الأسرة من علاجه، بسبب عدم وجود مستشفى في القرية التي كان يسكن فيها، ولنفس السبب وُلدت شقيقته في المنزل.
لم يكن ماني يُدرك هل سقط العائق الوحيد أمام لعبه لكرة القدم، أم سقط حلمه نفسه، بعد أن صار مسؤولًا عن أسرة صغيرة لا عائل لها.
لكن ما أدركه ماني في تلك اللحظة أن عليه أن يبذل كل ما لديه من أجل أن يساعد أمه، رغم أنه لم يزل في السابعة من عمره.
التغلب على الأسرة
توقف حلم ماني مؤقتًا، ولكنه لم يمت، حيث أيقظه بنفسه عندما بلغ سن الخامسة عشرة من عمره، حيث فر من أهله إلى العاصمة السنغالية داكار لممارسة كرة القدم.
ماني أكد أن تلك اللحظة كانت فارقة في حياته، حيث وجد نفسه وحيدًا بعيدًا عن أهله الذين يرفضون تحقيق حلمه بممارسة كرة القدم.
لكن النجم السنغالي أشار إلى أنهم وجدوا أنفسهم فيما بعد أمام خيارٍ وحيد بدعم ابنهم في رحلته لتحقيق حلمه، ليتغلب ماني على أحد أبرز العوائق التي قابلته.
لعب ماني لفريق مبور، وسرعان ما التقطته أعين فريق جينيراسيون فوت الذي كان يلعب في دوري الدرجة الثالثة بالسنغال في عام 2009، بعد تسجيل 4 أهداف في مباراة ودية.
لعب ماني دورًا بارزًا في قيادة جينيراسيون فوت لدوري الدرجة الثانية، ليبدأ معهم رحلتهم التي اكتملت بعد رحيله بالتأهل لدوري الدرجة الأولى والحصول عليه مرتين.
رديف مصاب بالدرجة الثانية
ومن دوري الدرجة الثانية في السنغال، انتقل ماني لنفس الدرجة في فرنسا عام 2011، مع فريق ميتز الذي كان يمتلك شراكة مع جينيراسيون فوت.
صاحب الـ19 عامًا وجد نفسه لاعبًا في الفريق الرديف، في أجواء أوروبية غريبة عليه، بالإضافة إلى إصابة كان يخفيها حتى لا تتعطل عملية انتقاله للفريق الفرنسي.
ظل ماني يخوض التدريبات مع الفريق الرديف وهو مُصاب، حتى تمت ملاحظة إصابته، ليخضع لعملية جراحية في الفخذ، أصبح أفضل بعدها.
استمر ماني كذلك حتى منتصف الموسم تقريبًا، قبل أن يشاهده أحد لاعبي الفريق الأول الذي كان يخوض تدريبًا مع الفريق الرديف للإيقاف، ويخبر الجهاز الفني للفريق عن إمكانياته، ليتم تصعيده للفريق الأول.
بعد تصعيده خطف ماني الأنظار بقوة، حتى إنه انضم لمنتخب السنغال الأولمبي في دورة الألعاب الأولمبية “لندن 2012″، وقاده للتأهل للدور ربع النهائي.
رغم هبوط ميتز لدوري الدرجة الثالثة الفرنسي، فقد خطف ماني الأنظار، سواءً بمستوياته مع الفريق، أو مع منتخب السنغال في أولمبياد 2012، ليحدد النادي الفرنسي مليوني يورو لبيعه.
بعدما كان ريد بول سالزبورج قريبًا من ضمه بهذا المبلغ، تلقى ميتز العديد من العروض لضم اللاعب السنغالي، ليقرر رفع سعره إلى 4 ملايين، وهو ما وافق عليه النادي النمساوي.
فشل الموسم الأول
أصبح ماني أغلى صفقة بيع في تاريخ نادي ميتز، ولكنه وجد نفسه مرة أخرى في أجواء غريبة ولغة وثقافة مختلفتين.
ما عقد من موقف ماني أن الفريق عانى في موسمه الأول معه، حيث ودع دوري أبطال أوروبا من الدور التمهيدي، وخسر لقب الدوري، وودع الكأس من نصف النهائي.
لكن كعادته، تغلب ماني على كل الصعاب، وفي الموسم التالي ساهم في 41 هدفًا في 50 مباراة خاضها مع سالزبورج في مختلف المسابقات.
وقادت تلك المستويات المميزة الفريق النمساوي للفوز بلقبي الدوري والكأس، بالإضافة للتأهل من مجموعات دوري أبطال أوروبا بالعلامة الكاملة، قبل الخروج من ثمن النهائي.
مغني الراب
بعد الموسم الثاني، بدأت العروض تنهال على ماني في صيف 2014، ليُقابل برفض النادي النمساوي التفريط في خدماته، وهو ما دفعه للصدام والغياب عن التدريبات.
اضطر سالزبورج للموافقة على رحيله، شريطة أن يكون ذلك لصاحب العرض الأعلى ماديًا، وقد كان لسبارتاك موسكو الروسي، فيما كان اللاعب يفضل الانتقال إلى بروسيا دورتموند.
وتلقى ماني الصفعة الأكبر ممن أصبح فيما بعد أحد أكبر داعميه، وهو الألماني يورجن كلوب الذي يقود دورتموند في ذلك الحين، والذي رفض إكمال التعاقد مع اللاعب السنغالي.
يقول ماني إن كلوب كان يقول عنه إنه أشبه بمغني راب، وذلك بسبب طريقة ارتدائه للقبعة، لينتقل في النهاية إلى فريق ساوثهامبتون.
مع ساوثهامبتون، سجل ماني أسرع هاتريك في تاريخ الدوري الإنجليزي الممتاز، في دقيقتين و56 ثانية ضد أستون فيلا، وساهم في تأهل الفريق للدور التمهيدي من دوري الأمم الأوروبية.
غير أن أداءه الأفضل في موسميه مع ساوثهامبتون كان ضد ليفربول، حيث سجل فيه 4 أهداف في 3 مباريات، لينتقل إليه في صيف 2016، ليجد نفسه تحت قيادة المدرب الذي وصفه بمغني الراب قبل عامين.
ريمونتادا صلاح
في موسمه الأول، ساديو ماني الذي أصبح أغلى لاعب أفريقي بـ34 مليون جنيه إسترليني، بات النجم الأول في ليفربول، حيث حصد جائزة أفضل لاعب في البريميرليج لشهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول من رابطة اللاعبين المحترفين.
وفي نهاية الموسم، دخل ساديو فريق العام من الرابطة ذاتها، وغنت له جماهير ليفربول، واختارته كأفضل لاعب في الفريق خلال الموسم، وكذا فعل لاعبو “الريدز”، بعدما كان ثاني هدافي الفريق خلف فيليبي كوتينيو.
لكن في الصيف التالي انضم محمد صلاح إلى ليفربول قادمًا من روما، ليخطف منه كل شيء، بداية من كونه أغلى لاعب أفريقي بمجرد إتمام الصفقة.
تألق صلاح بشكل لافت، وقدم أفضل موسم في مسيرته، أصبح هداف ليفربول الأول، وهداف الدوري الإنجليزي برقم قياسي (32 هدفًا)، وهداف دوري أبطال أوروبا بالتساوي مع ماني وربرتو فيرمينو.
خطف صلاح من ماني جائزة أفضل لاعب في ليفربول باختيار اللاعبين والجماهير، وحصد جائزة لاعب العام من رابطة اللاعبين المحترفين ورابطة النقاد الرياضيين ورابطة الدوري الإنجليزي.
ولم يكتف النجم المصري بهذا الأمر، بل إنه كلل تتويجاته في إنجلترا بالحصول على جائزة أفضل لاعب أفريقي لعامين متتاليين، وهي الجائزة التي لم يكن ساديو قد حصدها من قبل.
ولا شك أن أكبر ما خطفه محمد صلاح من ماني كان حب الجماهير، التي تحولت من الهتاف للنجم السنغالي إلى ترديد أغنية “الملك المصري” التي ألفتها له خصيصًا.
شعر ماني أن كل أحلامه تحطمت على صخرة زميله في الفريق، لكنه عاد لينفجر في المواسم التالية، خاصةً موسم 2018-2019 الذي حصد فيه جائزة هداف البريميرليج بالتساوي مع صلاح وبيير إيميريك أوباميانج، وأصبح أول سنغالي يفوز بلقب دوري أبطال أوروبا.
في تلك الفترة، بدأ ماني تحقيق الحلم الذي لازمه منذ وفاة والده وهو صغير، وهو بناء مستشفى في مدينته بامبالي لمساعدة أهلها على العلاج، وكذلك بناء مسجد ومدرسة.
قاريًا، أنهى ماني هيمنة صلاح الأفريقية، وخطف منه جائزة أفضل لاعب في القارة السمراء عامي 2019 و2022، ليتساوى معه في عدد مرات التتويج بها.
في 2022 أيضًا، أصبح ماني صاحب ثاني أفضل مركز للاعب أفريقي في ترتيب الكرة الذهبية، بعدما حصل على المركز الثاني، بينما كان المركز الخامس هو الأفضل لمحمد صلاح.
التفوق الأبرز لماني على صلاح كان على المستوى الدولي، ففي فبراير/شباط 2022، سجل ساديو الركلة الحاسمة في ركلات الترجيح ليقود السنغال للفوز بكأس أمم أفريقيا للمرة الأولى في تاريخها، على حساب مصر التي لم ينجح “مو” في تحقيق أول ألقابه الدولية معها.
وبعد أقل من شهرين، كان ماني يكرر نفس السيناريو بنفس الركلة الحاسمة، ليقود السنغال للتأهل لنهائيات كأس العالم 2022 في قطر للمرة الثانية على التوالي، على حساب منتخب مصر الذي أضاع قائده محمد صلاح ركلة جزاء في داكار.
لعنة المونديال
وكما شهدت 2022 وجهًا سعيدًا لساديو، فقد كانت شاهدة أيضًا على بعض الفصول الحزينة، بدايتها الرحيل عن ليفربول بعد 6 سنوات حقق فيها الدوري الإنجليزي لأول مرة من 30 عامًا وكأس الرابطة وكأس الاتحاد، وكذلك دوري الأبطال والسوبر الأوروبي ومونديال الأندية.
رحل ماني إلى بايرن ميونخ في صيف 2022، ليبدأ رحلته معه بكأس السوبر الألماني، وختمها بلقب الدوري الألماني، لكن ما بين البداية والنهاية لم تكن الرحلة على أفضل ما يكون.
دخل ماني في مشادة كبيرة مع ليروي ساني، عُوقب بسببها، بعد فترة قصيرة من عودته من الإصابة التي حرمته من المشاركة في كأس العالم 2022.
بطل العرب
أنهى ماني هذا الموسم بالرحيل عن بايرن ميونخ نحو النصر السعودي، وسط شكوك كثيرة تحوم حول قدرته على إعادة إثبات نفسه بعد موسم بافاري صعب.
لكن ماني رد على ذلك سريعًا وساهم في تتويج “العالمي” بأول لقب بعد غياب نحو 3 سنوات، وهو لقب البطولة العربية للأندية على حساب الغريم التقليدي الهلال.
وفي الدوري السعودي، سجل ماني 13 هدفًا وصنع 8 في 32 مباراة، ليقود الفريق للحصول على المركز الثاني بـ82 نقطة كاملة، لم تكن كافية للفوز باللقب أمام موسم تاريخي للهلال.
الهلال كان أيضًا من حرم ماني من تتويج جهوده مع النصر، حين سجل 4 أهداف وصنع آخر في كأس خادم الحرمين الشريفين، ليقود الفريق للمباراة النهائية، قبل الخسارة أمام “الزعيم” بركلات الترجيح.
ورغم الانتقادات التي يتعرض لها في الموسم الحالي، فإن ماني أسهم في 17 هدفًا، بواقع 6 أهداف و8 تمريرات حاسمة خلال 35 مباراة، بمعدل يقترب من هدف في كل مباراتين.
وتبقى أمام “أسد التيرانجا” فرصة للانقضاض على منتقديه، والعودة لقيادة الفريق نحو لقب تاريخي في دوري أبطال آسيا للنخبة، بعد تأهل “العالمي” لربع النهائي.
ماني في رمضان
يعتبر رمضان من المناسبات التي يحرص فيها ماني على تهنئة المسلمين بها، وهو نفس حرصه على صيام الشهر رغم كل المعوقات التي تواجهه.
وقال ماني في تصريحات سابقة عن صيام رمضان عندما كان لاعبًا في ليفربول: “الأمر ليس سهلًا، لأن اللعب والتدريب وصيام شهر رمضان ليس بالأمر السهل على الإطلاق”.
وأضاف: “قبل رمضان حاولنا التحدث مع المدرب لإخباره أنه ربما يمكننا تغيير الجدول والتدريب في الصباح، إذا تدربت في الصباح، فسيكون لديك الوقت للراحة والعودة إلى المنزل، أما إذا تدربت حوالي الساعة الثانية أو الثالثة، فسيكون الأمر صعبًا”.
وأردف: “قال المدرب نعم، وأعتقد أن هذا يجعل الأمر أسهل، ونحن نحاول بذل قصارى جهدنا”.
وأتم: “في شهر رمضان يكون الأمر صعبًا، ولكن أعتقد أن ليفربول يحاول تسهيل كل شيء بالنسبة لنا”.
الجدير بالذكر أن تصريحات ماني جاءت قبل مواجهة فياريال في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا 2022 في رمضان، وقد نجح اللاعب السنغالي في تسجيل الهدف الثاني لليفربول ليقوده للفوز 2-0.